اطلالة على قصيدة ( رحلة الطيوب ) للشاعرة صبا العلي - بقلم الكاتب سعيد رمضان علي
****أولا القصيدة *****
رحلة الطيوب
تتعطل الوجوه عن مضيها
تستكين
تتدثر الخبر الأسود
يحمل الكفن أغصانه
يلفها فوق الجسد
وتأخذك الطيوب زوارقا
نحو الأفق
تبكيك الجداول أنهارا حمرا
علقت فوق الوجوه براكين الذكريات
هناك خلف الأودية \ شقفين \ 1
لكم حفر ساعدك المرتجف
عناقيد تصيح
وتين أسود
جدي
وما ان أناديك
حتى تلطم الذكريات خدها الغابر
تمضي
وتمضي الى شرود الضحكات المخزونة
في الزواريب
تسبح شرايين الورد على خدك
جدي
هنا حرقت دموعك فستاني
وتصاعد دعاءك يطلب السماء
يقطف نجمة
يقدمها لرب مجيب
************************
تجول الأيادي في عيني
تشعلها قمصانك المركونة في بهو الدار
تنزعني عنها قصيدتي
تبحث عن البخور والطيب
والمسك الثكول على كفك
يضيع ويضيع في تعرجاتها
يحكي شبابه وقصة السفر برلك 2
جدي
أغيب اليك سفينة من مواسم الطفولة
الى يم سفك الدماء الزرق
في مقلتيك
على أهدابها حط الحنان رحاله
وغفا
سفينة أنا من مواسم الطفولة
الى الغضب الكذوب لحظة سخطك
وعلى عجل تطير بي أيادي العفو
الى حضنك
سفينة عدت من مواسم الطفولة
الى السرير المضرج بالحكايا
وحيد هو الآن كالبحر ساعة السحر
كمهوى نبع فكت منه الخوابي
وسكن رقصها
**********************
فكيف لي أن أقتلع صوتك
عن مسمعي
عن وجهي الذي ماعدت افسره
فنم ياحبيبي قريرالعين
في مرقدك
تحت سنديانتك التي زرعتها
ها هي تحتفي بك
هذي صبا حفيدتك
تمنت لو قبل الرحيل
استطاعت أن تشم يدك
******************************
1- هي منطقة زراعية كانت بستانا لجدي ولازالت 2- كلمة (السفربرلك) تركية وتعني "الحرب الأولى"، وسميت كذلك لأنها أول حرب شُنت بعد إزاحة السلطان عبد الحميد الثاني من قبل حزب الاتحاد والترقي على الرغم من الوضع المتردي آنذاك للدولة العثمانية، وقيل أيضاً أن معناها "الترحيل الجماعي"وكانوا يتنقلون بواسطة الجمال . ........... الى روح جدي الذي توفي عن عمر يناهز 133 سنة وكان من أكبر المعمرين في سوريا
---------------------------
----------- ثانيا الإطلالة ------------
سعيد رمضان على
--------------------
تزيل صبا القصيدة بكلمة :
(إلى روح جدي الذي توفي عن عمر يناهز 133 سنة وكان من أكبر المعمرين في سوريا )
وعندما نستعرض القصيدة نشعر على الفور أنها قصيدة ذكريات، لكن ما أن نتعمق فيها حتى نجد أنفسنا أمام شعر أبداع وانبعاث .. في لغة جديدة أقرب ما تكون إلى العذرية .. ﺍﺴﺘﻁﺎﻋﺕ أن تعبر عن حزن ﻟﻔﺭﺍﻕ الجد الذي ترك المكان بالموت، ﻓﺠﺎﺀﺕ ﺍﻟﻘﺼﻴﺩﺓ متجسدة مع الشاعرة ﻭﻤﺠﺴﺩة لعالمها .. وتفتتح الشاعرة قصيدتها بحزن فجره الموت :
( تتعطل الوجوه عن مضيها تستكين تتدثر الخبر الأسود يحمل الكفن أغصانه يلفها فوق الجسد وتأخذك الطيوب زوارقا نحو الأفق )
وكما فجر الموت الحزن في قلب الشاعرة ، فقد عمل على تجميد لحظة من الزمان هي لحظة الاستكانة للموت ( تتعطل الوجوه ) .. وكان خليقا بذلك التجمد والموت المتشح بالسواد .. ان تتوقف الحياة عند الشاعرة
بمعنى أن تتوقف عن الرؤية .. مع هدم كل شيء فيها .. لكن شيئا من ذلك لم يحدث .. فهي لم تتوقف عن الرؤية المصحوبة بالذكريات، لقد وقفت داخل اللحظة مفجرة فيها الصمت .. مفجرة فيها أيضا جماليات الصورة : (تبكيك الجداول أنهارا حمرا ) مع جماليات الذاكرة
(علقت فوق الوجوه براكين الذكريات ) مع التاريخ العريق الذي يجسد الحياة :
( هناك خلف الأودية \ شقفين \ 1 لكم حفر ساعدك المرتجف عناقيد تصيح وتين أسود )
فهو تجسيد للتاريخ والكفاح بشكل خلاق بصور موغلة في جمالياتها .. ولنتوقف لحظة عند العناقيد التي تصيح .. فهل عناقيد العنب فعلا تصيح ؟
والإجابة بنعم تكون استسهالا .. فبقدر ماهى تصيح، فهي تبعث فعلا الحياة .. فجماليات المنظر للعنب معروفة بألوانه الخلابة التي تكشف عن عظمة الخلق ... لكن العنب أيضا يجذب أسراب العصافير إليه في أوقات الفجر وأوقات العصر .. فصياح العصافير ( زقزقة ) يمتزج مع جماليات العنب .. مع خلق الله .. مع تاريخ مليء بالعرق والكفاح، فالموت يفجر بشكل تلقائي خلال فعل الذاكرة جماليات الحياة
أما التين الأسود .. فهو يرمز أحيانا إلى الحزن والهم ..
وتستمر الشاعرة في استدعاء الذاكرة .. من خلال الرائحة والملابس
والأماكن .. كأن الجد هنا معادلا للتاريخ .. من الصعب فصله عن حياة الذات الشاعرة .. وهى عندما تكرر النداء :
( جدي )
فهو نداء في بداية مفاصل .. كل مفصل يوحى بفعل للذاكرة .. كأن كل مفصل إطار تتحرك فيه صور الجد ، فالذات الشاعرة تعي ان حركة الجد من خلال الذاكرة هو من أجل القضاء على الموت والنفي .. فمن حركة الجد ينهض التاريخ وتتدفق الصور مع الذكريات .. وتظهر حيوية الأرض وعطاؤها .. والتكرار لا ينهض فقط على مجرد تكرار الكلمة ، بل ما تتركه هذه الكلمة من أثر انفعالي، ينقل من الذات الشاعرة،إلى الذات القارئة ويجعلها تشعر بنفس المشاعر .. وهنا نتوقف لنتأمل حركة التحولات المخفية في النص ولنأتي بكلمات دالة أولا وهى :
(عناقيد تصيح - تين أسود - فنم – قريرالعين- في مرقدك- تحت سنديانتك التي زرعتها- تحتفي بك )
فعناقيد العنب والتين يتم ظهورهم فقط مع بداية فصل الربيع .. ففصل الربيع تجديد .. وهو يرتبط في الأساطير بالبعث، وتقول الشاعرة للجد الذي مات ( فنم ) فهي تنفى بذلك صفة الموت عنه باعتبار أن النوم موت مؤقت كما يطلق عليه .. وبعدها يستيقظ الإنسان منه .. ثم تردفها بشطر أسطوري ( في مرقدك تحت سنديانتك التي زرعتها ) فالنوم أو الدفن تم تحت فالشجرة العريقة التي زرعها ، وبدفنه تحتها يمتزج مع جذورها ويمتد نسيجه ليختلط بالعروق ثم الأوراق .. وهو ما يظهر معنى كلمة النوم بدلا من الدفن .. ونلاحظ البيت الأتي :
(تبكيك الجداول أنهارا حمرا )
فدلالة الحمرة التي تظهر البكاء كأنه بكاء دامي غريز وغامر كالنهر ، تتحول كدلالة مساعدة لعملية البعث والتجديد .. لأن الأنهار تفيض بالطمي الأحمر الذي يغمر التربة بالسماد الطبيعي .. يتسرب للباطن من خلال الذوبان في الماء .
فنحن بإزاء عملية بعث تحويلي .. أي ليس بعثا من إنسان ليعود يكون إنسانا .. بل بعث من إنسان لشجرة شامخة .. تمتد جذورها عميقا للتربة .. شجرة ﺃﻜﺜﺭ ثباتا وأكثر ﻗﺩﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﻤﻭﺍﺠﻬﺔ ﻋﻭﺍﻤل الزمن والفناء كما أن ثباتها ينفى الهجرة والتجوال .. فالسنديانة تنقلب لفعل مقاومة وقدرة على البقاء والرسوخ، وتهب رائحتها العريقة لتعطر المكان الذي تعيش فيه الحفيدة كاستمرار للوجود .. وهو ما يقودنا إلى العنوان ( رحلة الطيوب ) بمعنى ذو الرائحة الطيبة والطيبة .. ويأتي ذلك ممتزجا في القصيدة في الأبيات التالية :
(تشعلها قمصانك المركونة في بهو الدار تنزعني عنها قصيدتي تبحث عن البخور والطيب والمسك الثكول على كفك )
وبقدر نجاح الكاتبة في التعبير في المفردات المؤدية للمعنى، بقدر نجاحها في أخفاء المادة الأسطورية، بحيث تظهر القصيدة كأنها قصيدة وداع وذكريات ، لكنها تخفى تحت السطح، التاريخ المجيد والبعث الممكن المتجدد والخالد .. وهى بذلك تملك نضجها الفني .
تلك بعض ملاحظات رأيتها من وجهة نظرى لأحد وجوه القصيدة فجماليتها تحمل أكثر من معنى .
----------
مع تحياتي للشاعرة