تجربة خاصة جدا - لمحمد السيد أبو ماضي
غالبا ما تستثير الأفكار الجديدة ردود الأفعال المحافظة على القديم والمعادية لنزعة الحداثة ، وهذا أمر ينطبق على الطريقة التي قوبلت بها تجربة(بركات معبد) الإبداعية على أرض سيناء بوجه خاص، ويرجع ذلك إلى عزلة إقليم سيناء عن طبيعة المرحلة فى ممارسة الكتابة .
ولا يغيب عن الجميع بأن تجربته ــ فضلا" عن تكوينه النفسي والوجداني والفكري ــ قد تبلورت بإقليم (قنا) الثقافي ، فهو قنائي النشأة والهوية .
ملمح أول ووحيــــد
سوف نرصد ملمح واحد من لتجربة(بركات) ( الموت / العدم) .
حين تبدأ في اختراق المسافات التي تفصل بينك وبينه سوف يصيبك شعور بالغثيان سرعان ما يتحول إلى غثيان جميل بعد أن تقتسم معه تجربته الشعرية بتنويعاتها المتباينة رغم اعترافه في قصيدة (حالات شخصية جدا) بأن طقوسه داخل محراب الكتابة مغلقة الفهم على الآخرين وهذا ما يعلن عنه صراحة في حالته السابعة :
(أكتب بين القوسين(حروفا) لا يعرفها إلاى )
فهو قد اعتقد يقينا أنه يمتلك أبجدية (بركاتية) ، وهو وحده القادر على قراءتها ، وهذا ما يفسر اندفاعه للكتابة بين قوسين ، وبطريقة لا شعورية عاد ليسجن حروفه بين قوسين آخرين مؤكدا استحالة اختراق عالمه المقدس ، فالوصول إلى حافظة كلماته التي يخبؤها بجوفه في حاجة إلى معجزة .
ـــ و(بركات) لا يوجد لديه ما يعيبه أو يفضحه أو يشينه كي يحرص على إخفائه ، ولكنه رأفة بنا وحرصا علينا من بشاعة عالمه التي تصيبنا تفاصيله بالمرارة والألم والشعور بالغثيان ، فأنت حين تحاول الولوج إلى داخل محرابه الشعري يفاجئك عجزك عن حصر عدد المرات التي مات فيها أو التي قرر فيها أن يموت .
ففي حالته الأولى من قصيدة (حالات شخصية جدا ) يقول :
( يوم وطـأت الأرض بحلمي / ماتت أمي
لففت الحبل السري على بطني
لما انقطع صراخي / فزعت قابلتي
قالت : مــــــــات )
فـ (بركات) هنا لا يختلف كثيرا عن شعراء عصره الذين يمارسون طقوس الحداثة ، فهم يموتون إذا ما وطأت أحلامهم أرض أفكارنا البسيطة والساذجة لما يقابلونه من الرفض لهم ولعالمهم ولتجربتهم ، فتموت حروفهم التي تمثل حلمهم في الوجود ، فيموتون اختيارا.
ولعل صورة الموت عنده أكثر قبحا وقتامة عند مقارنته بشعراء جيله ، حيث أنه تعلم أبجدية الفناء والعدم مبكرا جدا بصورة أكثر قتامة ، فقد مات أبوه وهو في الثالثة من عمره وماتت أمه ولم يكن قد مر على جنازة أبيه أكثر من ثلاثين يوما، فصار اليتم نهدا رضع منه لغة العدم وأبجدية الفناء.
وهو حين يتعلم النبوءة أخبرنا أنه سوف يموت كما في قصيدته السابعة من (قصائد قصيرة):
(تنبأت أنى أموت يوما
هل يكفى أن تتحقق نبوءتي / لأكون نبيا)
وهو بوعيه وثقافته وأحاسيسه المرهفة لن يعجز في التقاط وتسجيل ما يدور ببيئته وبين مجتمعه من شذوذ وتخلف وسقوط وانهيار، حيث وجد نفسه محاصرا بعتمة التفاصيل مما ساهم في تأكيد إحساسه بالموت.
ففي (خمس صلوات لهم) وفى صلاته الخامسة تحديدا لا نملك إلا الاعتراف ببراعته في تصوير قبح الواقع الذي يحاصره ويحاصرنا برمزية عالية.
( حين يكون الخوف لجاما تنشق الأرض لنصفين
نصف يبتلع الماء
والنصف الآخر يأكل أقوات الفقراء )
ويصدمنا بحقيقة المأساة التي نعيشها في (نقطتان و فاصلة) فيقول:
(مأساة الأمس ، اليوم ، الغد
بعض يضرب والكل يبول )
وفى محاولة يائسة حاول أن يهزنا بعنف أسئلته لعلنا نفيق من الغيبوبة فنجده يتساءل في (أروقة مستباحة).
( لا تسألوا الناجين من حبل المشانق بين أقوام موات
فلتسألوا كيف الكلام يموت محروقا على جمر السكات
أكفنا خلف الرؤوس تشابكت ، والصمت فوق رؤوسنا تاج لنا )
ومن الواضح أنه يئس تماما من إدراك النجاح في مهمته فآمن بوحدته وموته فانتحبت كلمات العجز والتوجع على شفتيه في (الوقوف بين البين بين) وهو يعلن عن قراره النهائي بأن يموت .
( هيئ ركابك واعتلى خيل التوجع
طاويا بين السطور تداعيات الآهة الثكلى
مازلت تعبث بانفلاق الأمنيات
مازلت وحدك راسما
فوق الجبين خطوط عمرك والممات )
وعنه نعلن عن قرارنا بالانسحاب من بين أنياب تجربة (بركات معبد) التي لا تعرف غير الافتراس.
محمد السيد أبوماضى