مسامير جحا - للكاتب سامي الشرقاوي
كان جحا في قديم الزمان يتطفّل على البيوت فيقبع فيها، معتبرا نفسه من أهلها وله حقوق عندهم وعليهم واجبات نحوه. وعندما تستفحل الامور، وتضيق منه الصدور، ويبان من جحا المستور، ويخلو جرابه من الحيل و"البرابيك"، ولا يعود يقدر على مقاومة أصحاب البيوت، فيرحل طوعا او كرها، ولكنه يترك في البيت مسمارا "يدقّ" به اواصر الصداقة ويعلّق عليه شمّاعة حسن النوايا، ويكون لاصحاب البيوت تذكارا، ولجحا مزارا يحجّ اليه كلّما دعت الحاجة الى ذلك.
والاستعمار مثل صاحبنا جحا، شيء مقيت، ودخيل ثقيل يقبع ولا يرحل الا بعد أن يكون قد غرز فكره وعقيدته ونمطه، وزرع في قلوب أهل البيت شتّى أنواع الضياع والخوف والجهل والتخلّف والامراض، واوهمهم انهم بدونه لا يستطيعون تدبير أمورهم.
واذا استعرضنا حال منطقتنا في تاريخنا الغير بعيد، نرى ان الاستعمار غلبها وقبع على ظهرها، وسلّط عليها كل انواع شروره من مؤامرات ودسائس ولم يتركها الا بعد ان أنهكها وشلّها ومنعها من التقدّم والرقي ودقّ فيها مسامير جحا في جدران كل دول المنطقة من لبنان الى أفغانستان.
فمثلا بعد انتصار الحلفاء وُضعت سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي. ولم ترحل فرنسا الا بعد ان زرعت الفتن بين ابناء الشعب الواحد وحصلت بينهم أبشع المذابح. رحلت فرنسا ولكنها صارت الام الحنون. وخلّفت وراءها النظام السياسي، والارساليات التربوية، والقوانين القضائية، وقسّمت الدستور الى أعراف.
أمّا بريطانيا فقد قبعت في مصر والسودان والاردن والعراق وشبه الجزيرة العربية وبلاد فارس، وعملت على خلق الدولة العبرية على أرض فلسطين، وساعدت اليهود على طرد الفلسطينيين الى لبنان وسوريا فصاروا لاجئين بعد أن كانوا أسيادا أصيلين. ثم خرجت بعد أن زرعت الفتن والقلاقل وأزكت الحروب والمؤامرات من حلف بغداد الى الحروب الاهلية في لبنان والانقلابات السياسية في سوريا والعراق، وحرّضت القبائل العربية وقسّمتهم، ووسّعت هوّة الخلافات العربية الايرانية.
لقد دقّ الاستعمار مسامير في ايران وبلاد العرب أجمعين و"خازوقا" كبيرا في فلسطين.
وبدخول اسرائيل والولايات المتحدة على الخط العربي، خسرت فرنسا وبريطانيا زادا دسما من أرباح قنال السويس بسبب ثورة عبد الناصر وانتصاره على العدوان الثلاثي عام 1956.
وبدأ الصراع الاوروبي الاميركي في لبنان، مستعملين اللبنانيين الذين كانوا مؤهلين ومشحونين لمقاتلة بعضهم البعض ومقاتلة الفلسطينيين الذين أوهموهم أن لبنان يمكن أن يكون وطنا بديلا لهم، بعد أن أفشل حسين الاردن تلك الفكرة على اراضيه.
وبغض النظر عن خطأ صدام حسين باحتلال الكويت، فقد كان صادقا بأن الاميركيين طلبوا منه ذلك رغم ان هذا يؤكد قصر نظره السياسي وطمعه الشخصي. فكان هذا العمل من أكبر المسامير التي أثبتها الاميركان في منطقة الشرق الاوسط، وساعدهم لاحقا على دخول منطقة الشرق الاوسط من الباب العريض.
بعدما أعلنت ألمانيا الحرب على روسيا، تحالفت روسيا مع بريطانيا لاحتلال إيران، وثبّت وليّ العهد محمد رضا شاه امبراطورا لإبقاء الكيان الإيراني في السلطة تحت اشراف اجنبي. غير ان ثورة الامام الخميني كانت مفاجأة كبيرة غير متوقّعة على مسرح الاحداث الدولية، ولم يكن امام الاستعمار الا الرد العسكري، وكان صدّام حسين أفضل من يوجّهوه ضد ايران على خلفية ان الشيعة ستقوى شوكتهم في الخليج وسيهاجمون سنة العراق برئاسة صدام ان عاجلا ام آجلا.
فشنّ حربا على ايران دامت حوالي 10 سنوات انهكت الطرفين ولم تعط اية مكاسب للدول الاجنبية لا في ايران ولا في العراق، غير انها استطاعت تثبيت نفوذها السياسي على باقي دول المنطقة.
وفي تركيا وبعد أن أعلن أتاتورك الجمهورية التركية تمكّن بمساعدة فرنسا وبريطانيا من استبدال المبادئ الإسلامية بأعراف قومية علمانية واستبدل الكتابة في تركيا من العربية إلى اللاتينية، وسيطر الحكم المدني على البلاد، وبدأت تعاني من معارضة الأكراد والأرمن.
أما المسمار الكبير لتركيا فهو معاناتها من صراع فكري حضاري رهيب، وقرار انتمائها الى اوروبا او الى آسيا، أو اذا ما كانت دولة اسلامية او علمانية، وهل ستنضم الى المجموعة الاوروبية أم لا؟ وهذا تماما ما جعلها عرضة لضغوط جمّة من اوروبا واميركا لقبول قواعد عسكرية على اراضيها وارضاء اسرائيل اقتصاديا وعسكريا.
أمّا العراق وبعد أن تحوّل إلى النظام الجمهوري، شهد عددا من الانقلابات العسكرية وكان آخرها ثبوت صدام حسين في الحكم حتى حرب الخليج الثالثة التي بدأها الرئيس الاميركي السابق جورج بوش وقد أعلن حينها صراحة أن حربه على العراق هي حربا صليبية لارجاع ما سلبه المسلمون والعرب بعد الحرب العالمية الاولى من حقوق الاستعمار الاجنبي لتلك البلاد.
هنا لا بد من التذكير بأن منطقة الخليج العربي كانت ولا تزال ملتقى الحضارات والثقافات القديمة، على مر التاريخ لأنها كانت تقع بأقصى الهلال الخصيب وهو الأرض الخضراء التي تمتد من المنطقة بأقصى شمال الخليج مشَكلّة نصف دائرة حتى شمال غرب هذه المنطقة لتمتد إلى دلتا نهر النيل. وبمجيء الإسلام أصبحت الدولة الإسلامية تسيطر على الطرق التجارية عبر الخليج والبحر الأحمر، وعلى الطرق البرية عبر الأناضول.
ومع قدوم الاستعمار البريطاني، بدأت القبائل هجرتها إلى منطقة ساحل عمان التي تعرف الآن بالإمارات العربية المتحدة. أقلق هذا الوضع بريطانيا خصوصا عندما بدأت مقاومة القبائل لجيوشها، فعمدت الى زرع الفتن بين القبائل وتحريضهم على فك الوحدة والانقسام. نجحت بريطانيا بالسيطرة على المنطقة لقرنين كاملين وضمّت جميع الأراضي فيها الى الإمبراطورية البريطانية العظمى. وأصبحت مسؤولة عن الشؤون الخارجية والدفاع فيها.
وبعد ظهور الدعوة السلفية في نجد، استطاع الملك عبد العزيز دخول الرياض وضم الإحساء والقطيف وباقي بلدان نجد والحجاز وأصبح ملكاَ للحجاز التي تحولت إلى المملكة العربية السعودية. وساهم اكتشاف النفط في حدّة المنافسة بين اوروبا واميركا على الصفقات النفطية.
وبعد نزع الملك سعود عن العرش استلم شقيقه فيصل العرش وأصبح رمزا عربيا واسلاميا لاتخاذه مواقف شجاعة من قضايا فلسطين والعالمين الاسلامي والعربي. وعندما حاول ان يستعمل البترول سلاحا لمحاربة الغرب، اغتيل ليخلفه أخوه فهد الذي أقام علاقة ممتازة مع أميركا.
ولم تخرج بريطانيا من الأردن الا بعد أن ضمنت الدولة اليهودية وألغت فلسطين الدولة ووجد الاردن نفسه أمام واقع ضم الضفة الغربية التي خسرها بحرب 1967 وهو الان تحت ضغط التهديد بأن يكون الوطن البديل للفلسطينيين.
أما قطر فقد عرفت بريطانيا كيف تشتغل على المذهبية بينها وبين المملكة السعودية، فكان التوتر سيد الموقف بينهما الى ان أنشأت الولايات المتحدة قاعدة عسكرية كبرى في قطر، وأعطتها قوة معنوية بين دول الخليج وتم توثيق وتقوية علاقاتها ايضا مع دول الاتحاد الأوروبي.
ولم تنسحب بريطانيا من البحرين الا بعد أن ضمنت بقاءها مستقلة عن الدول المحيطة واعتبرتها "إمارة مستقلة،" وأرسلت أسطولاً بحريًا لحمايتها بعد ان أيقظ استقلالها ادّعاء إيران بحقها في حكم البحرين. بيد أن ايران قبلت المساومة لنيل مطالب أخرى فبات جيش الشاه يعتبر شرطي الخليج.
دخل الجنوب اليمني بعد استقلال اليمن من الاحتلال البريطاني في وحدة مع اليمن الشمالي. غير ان مسمار الاستعمار ظل يواظب على تأجيج النعرات حتى أعلن الجنوب انفصاله من الوحدة ولكنه أجبر على التوحّد مجدّدا، لكن القضية لم تنته بعد وهي الى تصاعد مستمر بتدخلات أجنبية متواصلة.
أمّا السودان فقد تركوا فيه الفتنة الطائفية التي أشعلت حربا اهلية قاسية، وحتى تعجز مصر عن التراجع عن سياساتها التطبيعية مع اسرائيل، وعن تدخل فاعل في السودان، أبرزوا في وجهها اثيوبيا تطالبها بالتنازل عن كميات كبيرة من منسوب مياه نهر النيل او الحرب. وطبعا فإن فرنسا وبريطانيا واميركا هم وحدهم المؤهلون لحل تلك الامور!
بعد أن خرج الاحتلال السوفياتي من أفغانستان ترك فيها حكومة شيوعية قوية، جابهت مقاومة المجاهدين الاسلاميين بشتى الوسائل. غير أن المجاهدين استطاعوا دخول كابل بمساعدة اجنبية وخاصة من الولايات المتحدة، فانفجرت الحرب الأهلية الأفغانية. ومع انفلات البلاد الأمني، وغياب القانون استولى رجال طالبان على البلاد، فاستدعى ذلك الامر تنبّه المجتمع الدولي. وباستقرار تنظيم القاعدة في أفغانستان صارت أفغانستان بؤرة صراع دولية. صحيح ان الحرب الاهلية الافغانية انتهت رسمياً بالغزو الأمريكي لأفغانستان لكن البلاد بقيت رهن تجاذبات اللاعبين الكبار في السياسة الدولية.
والآن تتغير اللعبة بعد ان انتهت صلاحية استعمال بعض الانظمة العربية وبعض انظمة الدول الاسلامية القريبة من منطقة الشرق الاوسط. ولكن المسامير التي زرعها الاستعمار بقيت، وعاد اصحابها ليسألوا عنها.
في نظرة سريعة على الوضع المؤسف في المنطقة نرى التالي في تأكيد على أن جحا ما يزال متمكّنا من مساميره:
ففي تونس هرب الرئيس ولم تفلح القيادة الجديدة في تغيير السياسة العتيقة.
أمّا في الجزائر فالنار تحت الرماد، والكلّ متأهب للحظة حاسمة.
في ليبيا حدّث ولا حرج عن حالة مبهمة وقصة عجيبة غريبة عن زعيم فرّ وما زال يُقلق، ولم يُعرف الى الآن من ينتصر في هذا البلد المباحة ارضه ونفطه.
وفي مصر خلعوا الرئيس، بمظاهرات شعبية عارمة شبه سلمية، تحوّلت الى مهرجانات يومية وحفلات رقص وغناء. ثم اختلف الثوار وبرزت الحساسيات الدينية والمذهبية، وطاب للجميع البقاء في ميدان الحرية ليتصرّفوا بحرية تعطّل المصالح وتؤجج العواطف وتزيد من نار الفتن. والنتيجة جيش بيده السلطة لا يعرف كيف يتعامل مع الانتفاضات المدنية، وحكومة عيّنها الجيش أنهكوها بالمشاكل الداخلية، وأتعبتها الدول الشقيقة والصديقة، والكل يحاول جذب مصر الى نواحيه، ومصر لحدّ الآن ليس لديها رئيس جديد يتوافق عليه الشعب كله و... عصبة الامم!
وفي السودان حالة أقل ما توصف به أنها حالة شاذة. فالبلاد مقسومة والشعب مفتت، وتحذير يومي من انجرار البلاد الى حرب أهلية شاملة. طبعا السبب معروف ولكن الغاية غير واضحة، خصوصا وأن الصراع في لبّه هو صراع طائفي، انتهى ولم ينته.
والحالة اليمنية ليست أقلّ شواذا. فالرئيس مصاب وخارج البلاد، وهو ورغم مرضه لا يزال متمسّكا بمنصبه بحجة أمن البلاد! والبلاد تتدهور أمنيا يوما بعد يوم. والمعارضة لا تحسم وضعها لأنها هي أيضا منقسمة سياسيا وعشائريا. وما تبقى من الجيش صار فرقة أمن داخلي تتشابك يوميا مع المعارضين والمنشقّين. عدا عن ازدهار بيع الاسلحة والذخائر والتقدّم الملحوظ لتنظيم القاعدة في السيطرة على مناطق مختلفة في البلاد.
أمّا في سوريا فاللعبة تتدرّج يوميا ويصبح الصراع بين السلطة والمعارضة أكثر شراسة وأكثر انضباطا! بما يعني أنّ الجيش الذي يساند السلطة في الشارع بات في صراع مع مجموعات مدنية منظمة تشغله في عديد من المناطق بهدف انهاكه واضعافه. والمعارضة لا تحكي كثيرا عن سياستها وتركّز على العمل لرحيل النظام الحاكم. ويبقى الموقف العجيب للولايات المتحدّة لا مع النظام ولا مع المعارضة وفي نفس الوقت تحذّر النظام وتؤجج الشعب وتقول أن الحق على ايران وحزب الله!
وفي العراق. البلد العربي الذي ما زال تحت الاحتلال الاجنبي العسكري المباشر، فهو يستعد لمرحلة جديدة بعد اعلان المحتلّين الجلاء عن العراق في فترة زمنية لا تتعدّى السنتين. فنرى الدول الاقليمية ودول الغرب والشرق، تتسابق لتكسب هذا البلد الغني بخيرات جمّة منها النفط والعقول النيّرة والارض المعطاء. وينعكس هذا التسابق سلبا على أمن العراقيين في الداخل وسط الصراعات الدموية التي تتم فيه برعاية الدول المتصارعة عليه.
دول الخليج ليست بمنأى عن كل ما يحدث. فالبحرين يشهد أزمة حادة ظاهرها وباطنها طائفي بامتياز. ويمكن لهذه الازمة أن تمتد لتشمل الكويت وعمان والامارات وقسم من المملكة العربية السعودية اذا لم يتم حصرها سريعا.
والاردن هو امتداد طبيعي للعراق والسعودية، ويخرقها الآن حالة أمنية ظاهرها اسلامي، غير أن تأجيجها لا يبتعد عن طبيعة السياسة الغربية واسرائيل. واذا أصرّ الفلسطينيون على عدم التفاهم السياسي فيما بينهم، فمن السهل جدا أن يخسروا في وقت قريب الضفة الغربية وحتى قطاع غزة في تسوية شاملة مع اسرائيل، يعود بها القطاع الى مصر والضفة الى الاردن برغم ما يشاع ان الاردن هو الوطن البديل.
أمّا لبنان فمنذ أن نال استقلاله وهو في نظام مهتريء متآكل. إذ رضي اللبنانيون أن يفضّلوا طوائفهم عن وطنهم. ولم يستطيعوا نزع الطبقية من عقولهم. ولأن قدر لبنان أن يكون دولة يتعايش فيها أكثر من طائفة ومذهب، ودولة فتحت أبوابها لاستقبال اللاجئين لفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم وبيوتهم. سهل على الغرب تأجيجهم ضد بعضهم البعض.
ولمّا صار للبنان مقاومة ضد اسرائيل من اللبنانيين أنفسهم، برز حزب الله كتنظيم مقاوم رئيس، ولكن لم يمض وقت كثير حتى بدأ ينغمس بالسياسة اللبنانية، فبدأ القلق يتسرّب الى نفوس فريق كبير من اللبنانيين وخصوصا من المسيحيين والسنّة، وبدأ بريق حزب الله والمقاومة اللبنانية يخف تدريجيا حتى بهت يوم اغتيال رفيق الحريري عام 2005.
والى الآن لا يستطيع حزب الله التقاط أنفاسه وهو في حالة دفاعية مستمرة عن نفسه وعن سلاحه وعن المقاومة التي يمثّلها التي أصبحت هي أيضا موضع شك عند كثير من اللبنانيين.
واليوم وبعد اتّهام عناصر من الحزب باغتيال الرئيس الحريري، وتصريح حسن نصر الله الذي قال فيه بما معناه "روحوا بلطوا البحر" و " ليحاكموهم غيابيا" يجوز أن يكون قد بدأ العد العكسي لمرحلة جديدة تبدأ في لبنان ولا يعلم غير الله أين تنتهي.
فهل يفيق العرب من غفوتهم، ويصحّحوا هذه الاوضاع الشاذة التي تعرّض المنطقة العربية بأسرها الى استباحة شاملة؟
مسامير جحا من لبنان الى أفغانستان .... فهل من سبيل الى قلعها؟
سامي الشرقاوي