تحليل قصيدة ( قتلتني العروبة ) بقلم الدكتور شهير دكروري
تحليل قصيدة ( قتلتني العروبةُ ) : للشَّاعر ( محمَّد خير الوادي ) :
قصيدةُ " قَتَلَتْنِي العروبة " هي إحدى قصائدِ الشَّاعر الوثَّابِ ( محمَّد خير الوادي ) الرَّافدةِ ، وبالحقِّ فقد التزم الشَّاعر من بدءِ قصيدتِه تلك إلى منتهاها موسيقى بحر ( الوافر ) - إلَّا ما ندرَ - المتراقصة تراقصَ الطَّبيعة ، بل تراقصَ مجتمعنا العربيِّ في وقتنا الرَّاهنِ ، ممَّا يعكسُ حالةَ الوعيِ الَّتي يعيشُها الشَّاعر ( خير الوادي ) ،إذ يربطُ بينَ الواقعِ والإبداعِ ربطًا مُحكمًا ، وقد استهلَّ الشَّاعر قصيدتَهُ تلك بالاستفهام المتعجِّبِ، " وماذا يُفيدُ لو كتبتُ الشِّعرَ موزونًا ... "، حيثُ يُطارحني - مصادفةً - السِّياقَ نفسَه لقصيدتي " أصبوحة الشِّعر " المنشورة في جريدة ( الجزيرة السَّعوديَّة ) عدد الجمعة : 9 / 11 / 1432هـ . إنَّه هنا يعيدُ السُّؤالَ المتعجِّبَ نفسه ، ثُمَّ يُجيبُ إجابةً أكثرَ تَعجُّبًا ( فَأعجَبَك )،ومن هذا المستهلِّ الاستفهاميِّ المتعجِّبِ ينطلقُ الشَّاعرُ في استعراضِ همومِهِ وآلامِهِ وأوجاعِهِ المضنيةِ عبرَ ( غربتي الصَّمَّاءِ ) ، إنَّه هنا يُبكِمُ الرَّموزَ المعنويَّةَ ؛ لينحتَ معنى الحياة ، والحياة العربيَّة بوجهٍ خاصٍّ .
0 إنَّ الشَّاعرَ هنا يعيش غريبًا في وطنه ؛ وكأنَّه يُعيدَ سيرة الشَّاعرِ القرشيِّ ( عليِّ بن الجهم ) - إبَّانَ الدَّولة العبَّاسيَّة - ، نلمسُ عيشه الغريبَ ( اغترابه ) في وطنه من جملةِ مظاهر سلبيَّةٍ ، استعرضها الشَّاعرُ بإفاضةٍ بالغةٍ وبليغةٍ في الوقت ذاتِهِ ، حيثُ نلحظُهُ (يرمقُ الَّليلَ بنجومِهِ - ويحيا باحزانِهِ ليلَ نهار ) ، لكنَّهُ مع كلِّ هذا التَّاسِّي الَّذي يعيشُهُ يجعلُ من محبوبِهِ ( الوطن ) فراشةَ الأزهار ، أو الأزهار نفسها ، ويتأسَّى ، بل يخافُ أن يحرقَها صباحًا بطلَّتِهِ النُّورانيَّة الهوجاءِ ، ولم يكتفِ بمثلِ هذه الصُّورِ في سياقِ التَّراكيبِ الُّلغويَّةِ المتماوجةِ ، بينَ الطُّولِ والقصرِ ، والخبرِ والإنشاءِ ، والتَّساؤلِ والتَّعجُّبِ ، فضلًا عن الإجابةِ ، وإنَّما راحَ يُغلِّفُ تلك الصُّورَ بجملةِ تراكيبِها بغلافٍ ندائيٍّ مرَّةً ، ( يا صوتَ صداي ) ، والنَّفي مرَّةً ثانيةً ( لم يبقَ / لا أحد ) ، وضمير التكلُّم باسمه الظَّاهر ( أنا التَّغريبُ ) مرَّةً ثالثةً ،
إنَّ الشَّاعرَ هنا يُدلِّلُ بآثار تلك الغربة ومتعرِّجاتِهَا ، وكان من مخاضِها توحُّدُهُ بالتُّرابِ ، وحينما يصلُ إلى مرحلةِ الذَّوبانِ بذلك التُّرابِ الأثير يفجئنا بمفارقةٍ عجيبةٍ ( في جسدي ملايين الشَّظَايا / وملائكةُ السَِّماءِ ) ، وراح يستدعي لهذه المفارقةِ عرسًا من نوعٍ خاصٍّ ، ليس ككلِّ الأعراسِ ،وإنَّما هو " عرسٌ يليقُ بكلِّ مَن أحبَّ له وطنًا " ، إنَّه لا يزالُ يبكي الوطنَ الجريحَ ، متذكِّرًا قولَ نزار ( أنا الدِّمشقيُّ لَو شَرَّحتُمُ جَسدِي لسَالَ منهُ غناقيدٌ وتُفَّاحُ ) ، إنَّه لا يزالُ عالقًا بدمِهِ الَّذي سُفِكَ على أبواب دمشقَ ( الثَّمانية ) ، كما لا يزالُ يشتمُّ رائحةَ الماضي ( التُّراث ) في قوله : " توابل السُّوق العتيقِ " ، ألم أقل لكم : إن شاعرنَا ( محمَّد خير الوادي ) بدا غريبًا ، ولكنَّه بإبداعهِ الشِّعريِّ اقتربَ من الوصولِ إلى موطنه الَّذي اغتربه ، لماذا ؟ لأنَّه يمتلكُ أدواتِهِ ومعطياتِهِ الفنِّيَّة قبلَ الحياتيَّة ( وإنَّا لَمنتظرونَ ) لحظةَ الوصولِ إلى ذلك الوطنِ المحبوبِ .
نعم، ظل الشَّاعرُ يتوحَّدُ بالوطنِ كذاتِهِ تمامًا ، أو بمعنى آخرَ أدمجَ الذَّاتَ في الموضوعِ إدماجًا رائقًا و مستعذَبًا ، ووحَّدَ بينهما توحيدًا تامًّا يشي بالتَّفاني ؛ لِيخلقَ منهما وطنًا مِثاليًّا يتمنَّاهُ إنسانٌ مثاليٌّ ( مغتربٌ ) مثلُهُ .
والخلاصةُ تقولُ : إنَّ هذا النَّصَّ يمتلكُ البحرَ الشِّعريَّ المتراقصَ الفاعلَ , والصُّورَ البديعةَ الحيَّة والدَّالَّةَ معًا ، والأسلوب الوصفيّ المتنوِّع ، والتَّراكيبَ الشِّعريَّةَ النَّامية الجاذبة ، والرَّمزَ الأسطوريّ المثيرَ ، إنَّهُ نصٌّ فاعلٌ وتامٌّ ، كادَ أن يحصلَ على المركز الأوَّلِ واقتربَ منه كثيرًا ، وأرى صاحبَهُ الشَّاعرَ ( محمَّد خير الوادي ) على مشارفِ الوصولِ إلى تلك المرتبة قبلَ أن يصلَ إلى وطنهِ ، ومن ثَمَّ الحصولِ على الإمارةِ الذَّهبيَّةِ ؛ ليقدِّمَهَا هديَّة لوطنِهِ الجريحِ بعدَ عودتِه قريبًا ؛ اعترافًا منه بفضلِهِ عليه ، وتحميسًا لصمودِهِ ، وهو - في الحقيقةِ - أحقُّ - من وجهةِ نظري كناقدٍ - بإحدى الإمارات السِّتِّ المتبقيةِ . هذا كلُّهُ عن الإيجابيَّاتِ أمَّا السَّلبيَّات فبيني وبينَ صديقي الشَّاعرِ ، وسأرسلُها على صندوقِ رسائلِهِ الخاصِّ .
ماذا يُفيد لو كتبتُ الشعر
ِموزوناً لعينيك ِ... فأعجبك
وعُدْتُ مُحْتمِلاً
وجَعي على ظهري
َأحاورُ غربتي الصمّا ء
ِ و ترمُقُني نجومُ الليل
في عتب ٍ... فتحْرقُني
أنا رجل ٌ بلا أحزاني لا أحْيا
ِ و أنت ِفراشة ُالازهار
تحترقين لو من نور حقيقتي
صُبحاً ...خُلقْتِ
ًو بين النور وعشق الحُلم ثانية
تُقاسمُني شوقي إليكِ
تغدر في بقايا عقارب الزمن المُسَجّى
ُفوق عُمري ...وتبتعد المسافات
ْيا صوتَ صدايَ... لا ترجع
ٌفرجْعُكَ لي موتٌ وملحمة
ْوتاريخ ٌله يُدمع
ْقتلتني عروبتي كيف اصنع
لم يبْقَ إ نْساني...
لا أحدٌ لصراخ أشلائي... غداً يسمع
ٍ أنا التغريبُ في بشر
ِ توحّدَ في تراب الأرض
ْفي عينيك يُزْرَع...
وفي جسدي ملايينُ الشظايا
ملائكة السماء...تُحّضرُ لي
عرساً يَليقُ بكل مَنْ أحَبَ له وطناً
ُهناك حيث دَمي يُسفك
َعلى أبوابِ دمشق َ الثمانية
ِ ونسمةُ توابل السوق ِالعتيق
تكبيرٌ... وقرع أجراس الإخاء
تصدح في سما وطني المدمّى
لا أدري هل مازالت كلماتي الحمقى
تُطاردني وتلعنني
إذا أحببت في زمني
هل مازال قُدّاس العروبة
ْيبكيني ...أيا وطنَ الأموات ِأجّب
أين من ماتوا؟... هل مرت مواكِبُهُم؟
وهل نعاهم التاريخ دون علمي؟؟؟
أجيبوا ...يا من تماوتم...
ولكن كيف ؟؟؟؟
نعيت للحضاة اسمكم
نعيت للحضارة رسمكم
يامن تدعّون أنكم عرب
__________________
محمد خير الوادي