اللّفافة السّوداء - للكاتبة رائدة زقوت
لم أفكر كثيراً قبل اتخاذ القرار، نظرة الانكسار والعتاب في عيني أمي، الشعور بأني خذلتها قبل أنْ أخذل نفسي، وأحط من قدر عقلي بالتهرب مما أنيط بي من واجبات دفعني لاتخاذ القرار.
ليس سهلا أن تجوب حياتك السابقة على قلة عدد السنوات وتقرر أن تنهيها في لحظة واحدة، ولكنه القرار الصائب، الفشل بدأ يرافق دربي منذ ثلاث سنوات، لذلك لا بدّ من وضع الخاتمة وبسرعة وجرأة حتى لا يلتصق لقب فاشل باسمي، وأصبح مثلاً يضرب كلما أرادوا الحديث عن فاشل، الموت هو أسهل طريق لينسى الناس اسمي ولا يذكروني كمثال ماثل للعيان عن الفشل.
الموت شنقاً إذن سيكون القرار، سوف أنفذه بلا هوادة أو مماطلة ....عل الموت يجلب لي الراحة والخلاص.
حسنا ...هنا سيكون التنفيذ، الحبل جاهز، وطرف السريرلأقفزعنه؛ ليلتف الحبل بقوة وأنهي معاناتي سريعاَ، بعض الشّجاعة للقيام بالمهمة على الوجه الأكمل.
كل شيء جاهز لم يبق غير إغماضه قصيرة، وقفزة سريعة في الهواء، وكل ما حولي سيتبخر في ثوان، ها قد بدأت، واحد.....،اثنان.....، ثلاثة .....، بدأ اللون حولي يكتسب السّواد أشعر بنقصان الهواء، لم أعد أستطيع الحركة، ما بال صوتي لا يخرج، أمي ....أمي ....أرجوك أنا أموت، لا مجال صوتي يرتد لجوفي هارباً من الحلق، ما بال اللون الأسود يطغى على كل ما حولي، يلفني كما لو كان كفناً أسود فيه سأشيع لمثواي الأخير، ما زلت أصرخ في جوفي أنادي أمي، لقد غيرت رأي لا أريد أن أموت، لا أريد أن أموت، لا أستطيع النطق بالشهادة ولا بأخذ نفس، عيوني لم تعد تطاوعني لأشاهد الدنيا في نظرة الوداع الأخيرة، أريد أن أشاهد وجه أمي قبل أن أموت.
يبدو أنني أصبحت في القبر كل ما حولي أسود، ولا أسمع شيئا غير الهدوء حولي، سأنتظر الملائكة، وأنتظر العقاب المنتظر، ما أشد عتمة القبر! وما أضيقه! لا أستطيع التنفس، يبدو أن أمي ما زالت عند القبر أسمع صوت صرختها تنادي علي، أحاول أن أجيبها بأنني داخل القبر أسمع صراخها، ما هذه الجلبة في الخارج ؟؟..يبدو أن هناك الكثير من البشر عند القبر، مهلا لأحاول تمييز الأصوات، هذا صوت أخي ....وهذا أخي الثاني، لأركز فيما يقال حتى أثبت لنفسي ولكم أن الميت يسمع كل ما حوله وربما أيضاَ يجيب من هم خارج القبر، مهلا هذا الصوت لجارنا كيف حضر للقبر، وهو الذي يخاف من مشاهدة قبر في الأفلام؟! وهذا صوت قريبة لنا، .....ما زلت أحتاج لبعض التركيز لتمييز الحديث الدائر خارج القبر، إنه ميت ....هذه الكلمة خرجت من أحد الحضور خارج القبر يا الله كم هو غبي وتريد أن أكون حيّاً أرزق داخل هذه الكتلة من السواد؟؟!!....أحدهم يقرأ القرآن بصوت مرتجف وكأنه يبكي، ...أشعر بيد تمتد لجسدي، أحس بدفعة هواء تخترق رئتيّ، ما هذا هل فتح أحدهم القبر؟؟ لا لا اللون الأسود ما زال يسيطر على القبر بشكل مكثف، إذن لابد أنني بت أكثر من التهيؤ، لا ليس تهيؤاً أحدهم صاح بصوت مرتفع لقد سمعته يصرخ: أيقصدني؟؟ هل هو مجنون؟؟!! كيف سأصرخ والأسود يشتد حلكة؟!..... يا رب ....يا رب ...هذا صوت أمي الحبيبة إنها تبكي بحرقة، لا بد أنها تدعو الله أن يخفف عني عذاب القبر، يا إلهي أشعر بأيدي قاسية تحملني، الصوت المنادي لرب العالمين زاد، ما عاد صوت أمي وحدها، هناك العشرات ممن يقولون يا رب، هل يعقل أن تكون الملائكة من يحملني للحساب ؟؟!! لا يعقل هذا أشعر كأنني أسير في سيارة وأنا ميت، ما أكثر ما يشعر فيه الميت ونحن غافلون، السيارة تسير بسرعة جنونية، كم أتمنى لو أن اللون الأسود ينزاح قليلاً عن عيوني لأعرف هل تستعمل الملائكة سيارات في تنقلاتها لأخذ الأموات للحساب ..!!؟
الجلبة خارج اللفافة السوداء تزداد، والأيدي تكثر من لمس جسدي، أحتاج للصراخ، الأصوات باتت تزعجني جداً، حتى في الموت الإزعاج واللمس لا أظن أن هذا اللمس من باب التحرش، ومن يتحرش في ميت يلفه السواد؟!!... لا يعقل أبداً ما يحصل، أشعر بوخز في يديَ، وثقل في رأسي، وشيء ما ينزل في حلقي هل هذا هو العذاب؟!! ...إذا كان عذاباً فهو ليس بحجم ذنبي الذي ارتكبت، وإن كان نوعا من العبث من قبل بعض الأموات السابقين فهذا بالتأكيد ما لا يطاق، أهم يقيمون لي حفل استقبال في هذه اللفافة السوداء؟!...صوت من الأصوات المبهمة في الخارج يزلزلني ويقلب كل حساباتي رأساً على عقب، أظن بأنه قال كلماته بجانب أذني وهو يقوم بعمل ما فوق رأسي: " إذا مضت عليه عشر ساعات ولم تحدث انتكاسة سيعيش " ، يا إلهي ارحمني مما أنا فيه أنا ميت وفي القبر أو نائم يحلم ماذا يحصل؟؟!!....
صوت آخر في الخارج يبكي ويتحدث في عصبية واضحة، هذا الصوت لا يمكن أن أخطئ صاحبه أنه صوت أبي الحبيب يسأل الطبيب عن الوضع، أي وضع يا أبي؟ ألا ترى بأني ميت أمامك، أحتاج أن أصرخ، وأقوم من مكاني؛ لأحضن أبي ولكن الصّراخ ما زال يتقهقر لجوفي، واللفافة السوداء تلفني بالكامل، فقط هو الهواء والمسرب الذي فتح ما تغير على وضعي، شعرت بصمت مريب بشكل مفاجئ لكل الأصوات التي كانت في الخارج، هدوء تام، كم أحتاج للنوم، أقولها وأنا أضحك من حال ميت يشتهي النوم، ولكني لم أجد ما يمنع من اللجوء لإغفاءة بسيطة قبل أن يعود الأموات، أو تعود الملائكة.
يبدو أن الصوت قد عاد مرة أخرى، وأن الغفوة انتهت، أحاول التركيز جيداً وسأقوم بمحاولة أخيرة لفتح عيوني المثقلة بالأسود، ما هذا ....؟؟؟
هنالك ضوء خافت يتسرب وسط اللفافة السوداء، صوت يصرخ بفرح غامر: دكتور لقد فاق ....دكتور إنه يفتح عينيه، إنه أبي ...أجل.. أجل إنه أبي يتحدث للطبيب، بدأت خطوط الضوء تنتشر وتدحر الأسود بقوة، فتحت عيني أخيراً، لم أتوقع هذه المفاجئة أبداً أنا لا زلت على قيد الحياة، ومربوط لأجهزة عدة تحيط بكل جسدي، هرج ومرج وضحك وابتهالات وصراخ فرح يعمر الغرفة، والدموع تنسكب من عيون الجميع كمطر ينهمر من كبد السماء، الجميع هنا أمي، أبي، أخوتي، حتى الجيران والأطباء والعاملين في المستشفى الجميع فرح جداً، كلمة واحدة قالها لي الطبيب وهو يقترب من سريري نجوت من الموت بأعجوبة ..!! هل حقاً نجوت ؟؟ نعم نجوت وما تحقيق هذا الضابط معي غير دليل على النجاة، أريد أن أنام طلبت من الضابط المحقق ومن الطبيب.
حسنا سوف تنقل الآن لغرفة مستقلة: أجابني الطبيب .
أهذه غرفة أم سجن مصغر ..؟! النافذة عالية جداً، تمَّ استبدال كل القطع المعدنية بالغرفة بأخرى بلاستيكية، ممرض شاب يقيم بالغرفة معي، وآخر قريب من الباب، أدوات تناول الطعام بلاستيكية.
أمي وأبي والكثير من الأقارب طالب بقضاء الليلة عندي بحجة أنني ما زلت متعباً، وأنا متأكد بأنهم خائفون من تكرار التجربة ....يبدو أن أيام الحرية قد ولت إلى غير رجعة، سأعيش ما شاء الله لي أن أعيش محكوما بالمراقبة من تكرار التجربة، يالهذا القدر ...!!