اطلالة على قصة : " لماذا يضحك الرئيس؟"
للقاص عبد الجواد خفاجي
بقلم / سعيد رمضان على
-------------أولا القصة -----------------
جميعنا يعرف عبدالعاطي بقامته المديدة ، وتستهوينا خيمته التي تحوى الكثير من أدوات الصيد البدائية ، غير أننا نعرف تفاصيل عمره المديد الذي قضَّاه في قطع الصخور والحفر في الأرض .. لم يكن يعرف تحديداً لماذا يقطع الصخور، ولماذا يحفر في الأرض؟ .. كل ما يعرفه أنه مثل غيره، يخرج من الخيمة صباحاً إلى "الكانتين"، يتناول إفطاره مع بقية العمال، ثم ينطلق مع غيره ـ ما أن يسمع صافرة الريس سعيد ـ إلى حمل أدواته، منخرطاً في سرب العمال إلى حيث توجد العلامات التي يؤشرها المهندسون على الأرض، غير أنه لم يكن ينسي حمل قوسه وبعض سهام خشبية كان يصنعها بعناية. كثيرا ما كان يتلهي عن مشقة العمل إلى مشقة أخرى تستهويه، فينطلق ـ تاركاً العمل ـ وراء غزالة تعنُّ له في جنبات الوادي الفسيح.. ينطلق كظبي خلفها حاملا قوسه وجعبة السهام، بخفة يحسده الآخرون عليها يصوب نحوها سهمه؛ ليعود بها بعد قليل فوق كتفيه. كل المحيطين يأكلون من جهده لحم غزال لذيذ، يشونه بعناية في المساء وهم يتسامرون حول الخيام، وهم يتفرسون في جلدته السمراء وقسمات وجهه الصارمة، رغم ما يبدر منه من قفشات ونكات تثير ضحكهم الممزوج بالتعب، حين تنطلق حناجرهم بقهقهات عالية تتصاعد مع دخان الشواء. صار وجوده مثيراً للضحك والتندر، وصار العمال لا يطيقون فراقه، يسعون إليه في المساء ليستمعون إلى حكاية جديدة تجترها ذاكرته المتخمة بالحكايات القديمة. ثمة مساءٍ كان أكثر ضحكاً عندما حضر إلى جلسة المساء مدير الموقع، وفتح مظروفاً أصفر وتلا ما فيه: " تمت إحالة سعيد عبدالله المالح إلى المعاش وترقية عبدالعاطي السيد متولي رئيسا للعمال بدلا منه، باعتبار أقدميته " وشاهد الجميع عبدالعاطي وهو يقفز كبغلٍ في الهواء فرحاًَ، ثم يعود ليقفز في عب الريس سعيد ملتقطاً الصافرة .. تأملها قليلاً ثم وضعها بين شفتيه وراح ينفخ .. علا الصفير والجميع يضحكون ، وتساءلوا: لماذا يصفر الريس؟ .. بيد أنه لم يمهلهم طويلا وقد أجاب: لقد عشت عمرى كله أحلم بهذا اليوم ، دعوني أجرب الصافرة. لم يمض كثير وقت من الضحك والصفير حتى شاهد الجميع عبدالعاطي جالساً القرفصاء خلف خيمة، وقد انهمك في بكاء طويل .. تساءلوا لماذا يبكي الريس؟ وإن كانوا قد فهموا أنها دموع الفرح. الذي حدث أن عبدالعاطي امتنع ـ بعد هذا المساء ـ عن صيد الغزلان، كما امتنع عن مجالسة العمال، وقد أضحى من غير اللائق به أن يجالس الدهماء، أو يركض خلف الغزالات وهو المنهمك في الصفير. لقد صار المساء كئيباً بغير عبدالعاطي، بغير ضحك أو لحم أو شواء، غير أن العمال ضجوا بالشكوى وقد أضحى صفير عبدالعاطي مزعجاً.. هو يصفر بمناسبة وبغيرمناسبة، قبل الإفطار وبعده ، وأثناء العمل عندما ترتفع الشمس إلى كبد السماء، كان ينظر في ساعته ويصفر، حتى بعد عودة العمال إلى خيامهم آخر النهار، كان يخرج إلى البراح ، يطالع سقوط الشمس في المغيب ثم ينظر في ساعته ويصفر صفيرًا شديدًا منفِّراً متواصلاً، غير أن أشد ما كان يزعجهم أن يواصل عبدالعاطي صفيره بعد منتصف الليل . اقترح العمال على مدير الموقع وضع حدٍّ لمهاترات عبالعطي الذي يلهو بالصافرة. وذات مساء فاصل في حياة عبدالعاطي، حضر مدير الموقع إلى جلسة المساء الكئيبة .. فتح مظروفاً أصفر وتلا ما فيه: " تمت موافقة الهئية على تجريد عبدالعاطي من الصافرة، على أن يعود إلى صفوف العمال، مع احتفاظه بلقب "ريس".. هنالك صاح العمال فرحاً ، بّيْدَ أننا شاهدنا عبدالعاطي مبتئساً وهو يخلع الصافرة عن عنقه ويسلمها إلى مدير الموقع، غير أنه انزوى وراء خيمة وانخرط في بكاء طويل، وهنالك تساءل البعض: لماذا يبكي الريس؟ وإن كانوا قد فهموا أنها دموع الحزن. لقد تغيرت حياة الريس عبدالعاطي بعد تلك الليلة، وقد أضحى وأمسى لا يكلم أحداً ولا يرد على أحد، و كلما نظرنا إليه وجدنا دموعاً في عينيه، غير أنه كف عن الخروج إلى العمل وظل قابعا في خيمته، وقد استطال شعر رأسه ولحيته حتى بدا مثل غوريلا عاجزة. ـ يا لك الله يا ريس!! كيف ألفت حزنك وصمتك وعزلتك؟! الحقيقة أننا حاولنا أن نخرجه من عزلته وصمته، فكنا نذهب كل مساء لنستلقي حول خيمته، ونتعمد إطلاق الضحكات العالية والنكات المكرورة والحكايات القديمة.. كنا نتمنى أن يخرج إلينا ليجالسنا، ويتجاذب معنا أطراف الحديث، ويطلق ضحكاته التى ألفناها ، ونستمتع بحكاياته الشيقة وذكرياته المترعة بالخرافة .. حاولنا، ولكننا فشلنا، بّيْد أنه فاجأنا ذات ليلة بالخروج إلينا، وياله من خروج صادم!!.. شاهدناه جميعا جاحظ العينين، يقف بقامته المديدة فوق رؤوسنا، شاهراً سيفه الخشبي فوق رؤوسنا.. استبد بنا هلع فُجائي أقعدنا عن الوقوف، فانطلقنا ـ من أمامه ـ حبواً كجرابيع كسيحة تقاوم سيلاً جارفاً. هذا الصباح كان مختلفاً .. كنا عائدين من الكانتين وقد تناولنا إفطارنا، شاهدناه يقف منتصبا أمام خيمته كبقايا شجرة، فيما بدا شعر رأسه ولحيته كزوبعة في رياح .. وقفنا نتأمله وهو مشرع وجهه نحو السماء، متأبطاً قوسه وجعبة السهام ، صامتاً كصمت الجِمال.. بدا للحظة مخيفاً وقد لاحظنا جحوظاً في عينيه، وصرامة وجهه قد استحالت إلى تجاعيد متشابكة، وبينما توقع البعض أن عبدالعاطي مقدم على فعل ما، انفرجت شفتاه عن قهقهات عالية متتابعة، كانت بالنسبة إلينا مخيفة وبلا معني، وكان أن شاهدناه وقد أشهر قوسه فجأة وانطلق يعدو فوق رمال الصحراء. يا له من صباح معبأ بالدهشة والغرابة والفجاءة، اجتهدنا كثيرا في تفسير ما حدث، بيدَ أن أحدا لم يستطع الإجابة عن سؤال كان يضج في هذي الفلاة: ـ لماذا كان يضحك الريس؟
-------------- ثانيا : الإطلالة ------------
بقلم / سعيد رمضان على
--------------------------------
في قصته ( لماذا يضحك الرئيس ) وضع القاص عبد الجواد خفاجي يده على المساحة الموجعة، التي منحته تجربة عميقة في تعقيداتها وإنسانيتها معا .. حيث عانى بطله من الإحساس بالتهميش والوحدة والعزلة , والشعور العميق بالعجز
, ونجد في قصته إحساسا خاصا بالسمو , مرتبطا بشكل لا ينفصم عن الطبيعة كتوأم لروح الإنسان , حيث يلج الكاتب بجرأة، قلعه عالية يحتجز فيها الإنسان ذاته , ومن خلالها يلقى أيضا نظره فاحصة على العالم .
وبداية القصة التي تبدأ بالتعريف بالشخصية ، تنحو أيضا نحو تهميشها لنطالع مقطع البداية :
(جميعنا يعرف عبدالعاطي بقامته المديدة ، وتستهوينا خيمته التي تحوى الكثير من أدوات الصيد البدائية ، غير أننا نعرف تفاصيل عمره المديد الذي قضَّاه في قطع الصخور والحفر في الأرض ..
لم يكن يعرف تحديداً لماذا يقطع الصخور، ولماذا يحفر في الأرض؟)
فالشقاء مصاحب لحياه عبد العاطى، ويصاحب الشقاء التهميش والقهر وهو ما يعبر عنه الكاتب بقوله
(.. لم يكن يعرف تحديداً لماذا يقطع الصخور، ولماذا يحفر في الأرض؟)
لكن التهميش والقهر، يؤديان ببطله إلى القيام بمحاولات لدرء الانقسام نرى ذلك من خلال وصف ماهو موجود داخل خيمته : ( الكثير من أدوات الصيد البدائية) فأدوات الصيد البدائية ،هي حالة ابتعاد عن الحاضر المهمش والقاسي إلى كل ماهو قديم وبدائي .. إلى الذات البكر .. لكن حالة عبد العاطى تتغير في لحظة : " تمت إحالة سعيد عبدالله المالح إلى المعاش وترقية عبدالعاطي السيد متولي رئيسا للعمال بدلا منه، باعتبار أقدميته " )
فمن التهميش إلى السلطة يقفز الرجل فرحا في الهواء ، وليؤكد لذاته أنه لم يعد مهمشا وأنه أصبح موجودا يستعمل الصافرة التي ترمز للسلطة .. فهي التي توقف العمل وهى التي تسيره .. أنها تتحكم في كل شيء .. فهي القانون الذي يتحكم في ذلك المحيط الذي يعمل فيه (: لقد عشت عمري كله أحلم بهذا اليوم ، دعوني أجرب الصافرة.)
لقد كانت الصافرة تتحكم فيه ، فأصبح هو المتحكم فيها .. أصبح يملك القوة التي تفرض القانون ..
وبامتلاكه القوة يتغير :
(الذي حدث أن عبدالعاطي امتنع ـ بعد هذا المساء ـ عن صيد الغزلان، كما امتنع عن مجالسة العمال)
وقد تم تفسير هذا التغير من قبل الراوى بقوله :
(وقد أضحى من غير اللائق به أن يجالس الدهماء، أو يركض خلف الغزالات وهو المنهمك في الصفير.)
لكن الحقيقة أنه كان منهمكا في محاولة أثبات وجوده بشكل خاطىء .. لقد ظن أن السلطة تعيده إلى نفسه وهى التي تثبت قيمته كإنسان، وتمحى اغترابه وتقضى على تعاسته .. لكنه اكتشف أن ذلك لم يحصل .. فراح يحاول من خلال الصفير المرة تلو الأخرى.. لا أثبات السلطة بل أثبات وجود الذات .. لكنه يكتشف في النهاية .. انه سواء كان مهمشا ومقهورا.. أو كان حاكما وقاهرا .. ففي الحالتين هو عبد العاطى المقهور أبدا ، والمعذب أبدا .. والمنقسم على ذاته في مجتمع لا يعيش فيه سوى قاهر ومقهور .. مجتمع لا يسمح له أو لغيره ، بالعيش على سجيته في حالة سمو ، بدون قيود تقيد روحه .. وتمنعه من البحث داخل ذاته عن حريته المفقودة .. أنه إنسان أصيب وأصبح عاجزا ..لم يعد يملك أن يعيش مع الآخرين .. ولم يعد يملك نصيبه من الحياة الحقيقية التي تشرق فيها الشمس ويتنفس فيها الهواء الطلق .. وقد عبر عبد العاطى، في نوبات البكاء التي تصيبه عن ذلك العجز الإنساني في الحياة .. لكنه فجأة ينتفض .. رافضا كل مايكبل إنسانيته ونرى ذلك في هذا المقطع :
(انفرجت شفتاه عن قهقهات عالية متتابعة، كانت بالنسبة إلينا مخيفة وبلا معني، وكان أن شاهدناه وقد أشهر قوسه فجأة وانطلق يعدو فوق رمال الصحراء.)
أنها انتفاضة ضد العجز الطاغي ، والقهر والوحدة والعزلة، عن طريق اكتشاف الذات، ونفى حالة الاغتراب من خلال التوغل بحريه، لا تخلوا من مخاطره داخل رحلة تتجه إلى كل ما هو قديم وبدائي وموغل في الوحشة , في الصحراء كرمز إلى العودة إلى الجذور والى الينابيع العميقة والتي جعلت من الإنسان إنسانا , مالكا لحريته وبراءته في رحلة الذوبان المدهشة بالصحراء والتوجه بحرية نحو أفاق مجهولة , حيث تتحول الطبيعة البكر إلى ذوات حيه وشخصيات معنوية قد نصادف فيها نفوسنا الحقيقية وشخصياتنا على طبيعتها.
---------------------
تحياتي للكاتب