رحلة الى القدس ج1 - للكاتبة م هناء عبيد
معاناة عند جسر العبور
كان لا بد من أخذ الإذن أولا لدخول مدينة السلام، مدينة ميلادنا وميلاد أبائنا وأجدادنا، فالأبواب موصدة في وجوهنا علينا الانتظار لوصول مفاتيحها ووصول تلك الورقة التي تسمى بالتصريح. . فلا زلت أذكر عندما كنت صغيرة، كم كنا نعد الأيام تلو الأيام كي تمر سريعا ويأتي الفرج بوصول تلك الورقة السحرية التي يصرح لنا من خلالها بدخول مدينة الأحبة، مدينة القدس. ورقة شفافة رقيقة تكتب عليها أسماؤنا بالعبرية التي لا نعرفها. كانت هذه الورقة هي الفرج لرؤية الأحباب، وما خلفته ذكرياتنا من أيام جميلة في أرض التراب الطاهر المقدس، وأرض مهبط الأنبياء. مرت الأيام وجاء أحد الأقرباء زائرا من أرض الأحباب يحمل معه رائحة نسيم القدس العليل، ومعه كان مفتاح الفرج الذي فتح في قلوبنا أبواب السعادة، ونوافذ الأمل بزيارة أقدس الأراضي، وإطفاء نار الشوق إلى الأحبة .
بدأت الرحلة بتاكسي لجسر الملك حسين. وقد أخذنا معنا حقائبنا كالعادة، مع فارق أننا أكثرنا هذه المرة من حمل العتاد إعتقادا منا بأنها المرة الأخيرة التي سيكون فيها ترحالنا، آملين بما يسمى بلم الشمل، تلك العبارة التي كثيرا ما سمعتها تتردد على ألسنة الأهل دون أن أفهم ما تعني، إلى أن أيقنت أخيرا بأنها إحدى مرادفات المستحيل، فلا الأيام، ولا السنون، لمت هذا الشمل المنشود، وبقينا مشتتين في غربة طال أمدها في بقاع لا عد لها ولا حصر على وجه الأرض.
من خلال رحلتنا في التاكسي يتكرر المشهد في كل مرة، حيث يبدأ السائق بتبادل أطراف الحديث مع الركاب، الذي يتمحور حول نفس الموضوع في كل مرة، قصص الرحيل، والعناء، والمشقة، وضنك العيش، والحزن الشديد بعيدا عن الأرض والأهل والأحبة .
بعد عناء مرهق، وصلنا إلى المنطقة التي يسيطر عليها الكيان الصهيوني من جسر الملك حسين أو جسر اللنبي الذي يعتبر نقطة العبور بين الأردن والضفة الغربية والعكس، والذي كان قد أطلق عليه هذا الإسم تيمنا بالقائد الإنجليزي الذي عبر بجيشه للسيطرة على فلسطين عام 1917م، وهو جسر لا يزيد طوله أو عرضه عن بضعة أمتار، وعلى الناحية الغربية منه تقع مدينة أريحا. في هذا المكان، الشاهد على عذاب وإهانة ومعاناة الفلسطينيين الذين يريدون العبور إلى الضفة الأخرى من الجسر،كانت تتنوع أشكال المعاناة على ملامح الوجوه. ففي أحد الأركان كانت تجلس امرأة لم تدع السنون جزءا من وجهها إلا ووضعت بصمات الحزن عليه، تسيطر عليها ملامح توضح شوقا لأب، أو أم، أو ربما اخ ابعدهم الظلم عنها مسافات شاسعة. وفي الركن الآخر جلست عجوز حنى الشوق والحنين ظهرها فلم تبعد المسافة بين رأسها والأرض كثيرا، وكان بجانبها كيس من قماش يمتلئ بحاجيات لا بد وأنها اختيرت بعناية فائقة لإرضاء أطفال القرية وبقية الأحبة والخلان، ولا أحد يعلم، فقد يكون ثمن هذه الهدايا قد استنفد آخر ما في الجيب من نقود. أما في الركن الثالث فكان يجلس شيخ كبير بجانب عصاه الملقاة على الأرض متنتظرة قيامه لتسند جسدا أنهكه الشوق لتقبيل أرض طاهرة حرثها بكل حب وود، وزادتها قدسية شجرة زيتون غرست جذورها بقوة في ترابها. ولا زال ذلك الشيخ الجليل يحتفظ بذلك المفتاح، والأمل لا يفارقه بأنه ربما قد آن الأوان لفتح باب الدار ليينتعش برائحة المكان، ودفء العائلة عندما كانت ملتئمة حول ذلك الموقد الناري الذي يرقد في مكان ذهبي من الذاكرة.
هناك وعند ذلك الجسر تبدأ المعاناة والعذاب والإهانة، حيث تبدأ الإجراءات القانونية لتأخذ طريقها بطرق مهينة، لتبدأ بعدها عملية التفتيش الدقيقه، التي تجرد الانسانية من كرامتها. كنت أنظر إلى السيدات اللاتي كن يقمن بعملية التفتيش وأدقق في ملامحهن التي كانت تختلف اختلافا كبيرا من واحدة للأخرى مستغربة من أي البقاع أتين، وكأني أنظر إلى كائنات غريبة لا تنتمي بأية صلة إلى كوكبنا الذي نعيش عليه. كان الإستغراب والفضول عندي كبيرين، ترى لم كل هذه الإجراءات، ولماذا هذا الخوف الذي يكتنفهن..؟ وعن ماذا يبحثن..؟ بعد انتهاء الإجراءات المرهقة المملة، والمعاملة المذلة، المهينة، والحر الشديد، والإنتظار الطويل، تبدأ عملية البحث عن الحقائب وأكياس القماش المتناثرة هنا وهناك، لنبدأ بعدها تنفس الصعداء، ها نحن أخيرا قد عبرنا ما وراء الجسر الذي أصبح اسمه مقترنا بالذل والإهانة والتعذيب، ولعل ما كان يشفع له، أن تخطيه كان يعني بارقة الأمل، التي تجلب إلى الذاكرة، مدينة القدس، تلك المدينة الخيالية الساحرة.
رأيناه يلوح لنا من بعيد حيث تصطف سيارات الأجرة التي تنقل الركاب من الجسر إلى رام الله أو أريحا أو القدس. عندها شعرنا بسعادة كبيرة وكأننا تخطينا حواجز من نار لنصل إلى بر الأمان، إنه أحد الأقارب الذي كان يعمل على خط الجسر-أريحا، والذي كان ينتظرنا هناك لعلمه المسبق بقدومنا، فيكون دوما أول من يستقبلنا عند وصولنا. ومن هنا تبدأ الرحلة، التي تتكرر في كل زيارة، نبدأ أولا بزيارة بيت الأقارب في أريحا، حيث أبناء العمومة. وبما أننا أطفال عرفنا الغربة منذ نعومة أظفارنا، كدنا لا نصدق بأن هناك أناسا من البشرية على وجه هذه الأرض يحملون نفس أسم عائلتنا التي كنا ننفرد في حمله في بداية جلائنا عن الأرض إلى أردن المحبة والخير. كانت عائلات كثيرة تتجمع للترحيب بنا، وكأننا كنا في حضرة عرس كبير كان قد أقيم خصيصا للإحتفاء بقدومنا قلما حضرنا له مثيلا .
أخيرا وصلنا أريحا، أقدم مدينة في التاريخ، وأجمل مشتى يقصده السياح للإستمتاع بدفئها وقت الشتاء. كم أنت جميلة يا أريحا وكم لرائحتك العطرة المميزة سحرها. حتى حرارتك التي لو تعدت درجتها فوق ما تحتمل رؤوسنا، تظل دفئا يسري في العروق، دفء مدينة جليلة من مدن الأرض الطاهرة. وما أجمل ليلك يا أريحا. فحينما كان يخيم ظلامك المؤنس على حدائقك الغناء، كنا نجري بين أشجارك الجميلة، أشجار البومل والبرتقال والليمون ورائحتها المميزة التي تظل سحرا مسيطرا على حواسنا لا تقدر ان تزيله السنون. وبين ضحكات الأهل وقصصهم الشيقة المسلية، كنا ننعم بدفء عذب حديثهم، وبينما الجميع منهمكون في الحديث كانت تتعالى أصوات تطن بإستمرار في أذاننا، كنا نحاول عبثا معرفة مصدرها دون جدوى. وأجمل ما كان يبهرنا في تلك الأثناء حشرة"ضو الغولة" المسكينة، تلك الحشرة التي كانت تضيء وتطفئ بشكل متوال، والتي لم تكن تنجو من شقاوتنا حينما كنا نلاحقها من مكان لآخر في محاولة لإمساكها كي نكشف سرها العجيب.
بعد الإستمتاع بدفء أريحا وأحاديث الأهل فيها، كنا نواصل رحلتنا متوجهين إلى القدس تلك المدينة التي لا يكاد يذكر إسمها إلا وتفيض عيناي بالدموع، وتصيبني قشعريرة اللوعة والحنين. وكان يتخلل زيارتنا للحبيبة القدس مرورنا بقرية العيزرية، إحدى قرى القدس، لتنبهر أعيننا بجمال العمارة ونحن نشاهد إحدى الكنائس الأثرية فيها والصور الجميلة المرسومة عليها، إلى أن نصل مدينة القدس مدينة السلام، مدينة القداسة والعراقة، مدينة الأهل والأحبة التي تركناها قسرا. فأية مدينة في مثل سحرك يا قدس، وأية شمس تنشر شعاعا ذهبيا يخطف الأبصار مثل شمسك يا قدس، وأي نسيم عليل مثل هوائك يا قدس. وهل عرفنا الذهول قبل أن نرى قبة الصخرة تتوسط حاراتك الاثرية وشوارعك القديمة، وهي تعكس أشعة الشمس الذهبية لتزيد نورك بهاءً وجمالا. كم هي كبيرة سعادتنا ونحن بين أحضانك، نتنسم هواءك، نشرب عذب مائك، نتبارك بدوس ترابك، نتطهر بزيارة أقصاك الحبيب، وكنيستك المقدسة، نعانق الأحبة لنطفئ لوعة الشوق والحنين، نقبل يدي الجد والجدة، نمتع ناظرينا بجمال حدائقك الغناء، نأكل من شجرة زيتونك المباركة، ونتلذذ بمذاق تينك الأكثر حلاوة، فهنيئا لنا أننا ننتعش بالحياة بين أحضانك الدافئة ولو إلى حين....يتبع