بين قصتين تكمن الفجوة - بقلم محمد المهنا أبا الخيل
تموت الأسـود في الغابات جوعا .... ولحم الضـأن تأكله الكــــلاب
وعبد قد ينام على حـرير .... وذو نسـب مفارشـــه الـتراب
أجتهد بألا تتأثر كتابتي بالأحداث اليومية التي أواجهها في عملي أو تعاملي، فما أكتبه للقراء يجب أن يكون نتاج فكر مستقر مبني على استيعاب وتدبر ومراجعة وبحث شامل، فلا يجوز أن يلقي الكاتب بحوزة قراءة غثاء قول وهوى، فما أجدرهم بعصارة فكره التي يروم حصانتها وتذكيتها صادق القصد والهدف، ولكن حدث موقف لي مطلع هذا الأسبوع وما نتج عنه، كان أفضل ما يكون كقصة تبين ما يجب وما لا يجب تجاه العملاء، وتوضح بجلاء أثر السلوك والنمطية الفكرية الموروثة في بناء ثقافة مؤسسية تكوّن أو تهدم مفهوم جودة الخدمات المقدمة لجمهور العملاء، وما دفعني لطرق هذا الموضوع هو أن هذا الموقف أو شبيه به واجهني قبل (34) سنة وفي مكان مختلف، وما أرمي إليه بهذا المقال هو التنبيه لمن يقدم خدمات للجمهور أن يهتم بنوعية الخدمة وينظر لخدماته كما لو كانت منتجات محسوسة ويستشعر مشاعر العملاء عندما لا يحصلون على الخدمة النوعية التي يستحقونها.
دخلت حجرة أحد مكائن الصرف الآلي الملحقة بفرع من فروع واحد من كبار البنوك السعودية، وعندما أدخلت بطاقة الصرف الآلي وإذا بالمكينة تلتهمها و(تطفى)، فتوجهت لداخل البنك، ويبدو أن مسئولاً أو أكثر في ذلك البنك كان لديه علم بمشكلة الماكينة، حيث قابلني مساعد مدير الفرع وقال لي، « أكلت بطاقتك !» وهو يبتسم، لم يكن الموقف مثيراً بعد حيث كنت أعتقد أن المسألة لا تتعدى أن يأتي بالمفتاح ويستخرج البطاقة، فلم أعلق سوى قولي « يبدو أن الماكينة خربانة « فبادرني « وإلا بطاقتك خربانة « وهو يبتسم ابتسامة تنم عن اتهام و إقلال، وهنا احتدم الأمر في رأسي وأحسست بوقع الإهانة، فقلت « على كل حال أرجو أن تستخرجها بسرعة « وهنا كان شخص آخر يريد استخدام الماكينة الأخرى التي بجوار المكينة الخربانة فقلت له « انتبه لا تروح بطاقتك فيها « فما كان من مساعد المدير إلا أن التفت إلي متجهماً وقال « لا يحق لك أن تقول هذا وخليك في حالك «وتركني وذهب إلى داخل الفرع، كنت أظن أنه سيحضر المفتاح ويخرج بطاقتي، وحيث لم يعد بعد مرور عدة دقائق، دخلت أبحث عنه فلم أجد له أثرا، وسألت أحد الموظفين فقال «يجب أن تأتي غداً لتأخذ بطاقتك» لم أتمالك نفسي من الانفعال « كيف يكون ذلك؟ يجب أن أحصل على بطاقتي أولاً ثم أني بحاجة لبعض المال « وبكل برود وهو يلقيني ظهره « هذا النظام وطالما أن حسابك ما هو عندنا لا نستطيع أن نفعل لك شيئا « ثارت ثائرتي لعدة أسباب، أولها: أن تعامل الموظفين بما فيهم مساعد المدير كان جافا وخالياً من أي تعبير ينم عن تقدير معاناتي نتيجة لفقداني بطاقتي بسبب سوء صيانة مكينتهم.
ثانياً: قناعتهم بأن علي الانصياع لنظامهم وإلا أنا إنسان غير واقعي.
ثالثاً: سوء السلوك في الخلاص من العميل بمجرد وصول الموظف لقناعة بنهاية المعاملة. نعم زمجرت وعلا صوتي أمام موظف علاقات العملا اشتكي وأرفض إذلالي بنظامهم، والحقيقة أن لجامي انفلت فأثرت أن أنسحب قناعة بأن لا طائل من جدالهم، وفي اليوم التالي حضرت لأخذ بطاقتي وطلب مني مدير العلاقات أن أستريح قليلاً حتى يحضر البطاقة وبعد أن أحضرها ووقعت على ما يثبت الاستلام، نظر إلي وهو يبتسم، وكنت أعتقد أنه سيعتذر عما سببه لي نظامهم من عناء، ولكن ذلك لم يحدث بل الذي حدث أن بادرني « يا أخي أمس الله يهديك كنت غلطان « لم أشأ أن أستمع لباقي موشح الملامة فتركته وخرجت من ذلك البنك العريق، وأنا عازم ألا أدخله ثانية.
في العام 1976 انتقلت للدراسة في مدينة فكوكا جنوب اليابان وكان حسابي البنكي لدى بنك (سنوا) ومرتب بعثتي كان يودع في البنك في مدينة طوكيو، ولم يكن في مدينة فكوكا سوى فرع واحد لذلك البنك في حين كان بنك (متسوبيشي) منتشراً في المدينة وكان واحداً منها قريب لسكني، في ذلك الحين كانت البنوك اليابانية تستخدم مكائن صرف آلي من نوع قديم وكل بنك لديه شبكة خاصة به ولم يكن بالإمكان الصرف من حساب بنك لدى بنك آخر إلاّ أن بنك (متسوبيشي) أعلن أنه سيوفر الصرف من مكائنه لحسابات عملاء عدد محدود من البنوك اليابانية وكان بنك (سنوا) واحد منها، لذا ذهبت لفرع بنك(متسوبيشي) القريب من منزلي، وحاولت أن أسحب مبلغا من حسابي ببطاقة الصراف ولكن دون جدوى، وعدت في اليوم التالي حيث تبادر لذهني أن راتب البعثة لم يودع بعد، وتكرر الوضع فلا نقود بالحساب، وفي اليوم الثالث وقد بلغ القلق بي مبلغاً فلم يعد بجيبي أي مبالغ نقدية، ذهبت للفرع نفسه وتكرّر الحال فما كان مني إلاّ أن دخلت على مدير الفرع، أشتكي وأنا منفعل وكنت شاباً ومفعماً وقلقاً وفي بلد لا أعرف بها أحدا فعلا صوتي، والتفت الناس في كل البنك لي وأنا أقول « إن الماكينة اللعينة لا تخرج لي نقوداً مع أن عندي في الحساب نقودا «، عم سكون في البنك عدا صوتي، وأدركت أني حزت الانتباه الذي أريد، فصمتّ وأنا أتنفس بعمق، فما كان من إحدى الموظفات ألا أن أحضرت لي كأساً من الماء، وطلب مني مدير الفرع أن أستريح في غرفة مجاورة معدة لمقابلة كبار العملاء، ثم أحضر أحد المشرفين ومعه موظف آخر، وجلسا قبالي وكل منهم معه دفتر وقلم وطلبا معرفة اسمي وأين أسكن وبنكي وفي أي فرع حسابي، ثم ذهب أحدهما وبقي الآخر يقول «اطمئن لن تخرج من هنا إلاّ ومعك بعض النقود ولكن يجب أن نعرف أين الخلل حتى لا يحدث لك مرة ثانية»وبعد الاتصال مع بنكي في طوكيو اتضح أن مرتب البعثة لم يودع في الحساب، وأن اسمي سقط سهواً من البيان الذي سلم للبنك لإيداع رواتب المبتعثين ، وأن الأمر يستدعي الانتظار للغد حتى يكون المبلغ في الحساب، بعد أن أبلغني المشرف تلك الحقيقة قال لي «أرجوك انتظر لحظة « وبعد قليل عاد ومعه مدير الفرع الذي سلمني مبلغ (10.000) ين وقال « أرجو أن تكفيك بضعة أيام حتى تترتب الأمور وعندما تأتي لتسحب مبلغا من الماكينة بإمكانك أن تردها لنا « وأردف ضاحكاً «وربما نقنعك بجعل حسابك لدينا « وهذا ما حدث فعلاً فقد نقلت حسابي لديهم.
هل هي أخلاق اليابانيين التي اكتسبوها من حضارتهم وتربيتهم؟ ما جعلهم يعاملون طالبا أجنبيا لا مطمع فيه معاملة كبار العملاء، وهل هي أخلاقنا التي تربينا نحفظها؟ هي ما جعل مساعد مدير البنك السعودي ومعاونيه يتكاتفون لإظهار مواطن كهل مثلي أن لا احترام له مهما يكن طالما هو غير معروف لديهم.
من أين نبدأ إذا أردنا أن نتغير ونكون أمة متطورة بأخلاقها وخدماتها وحضارتها؟، سؤال لمن