لو كنا نقرأ _ للكاتب أحمد حسن الزيات
في مصر تسعمائة وتسعون في كل ألف لايقرأون , وتسعة من هذة العشرة الباقية ينتفون الأخبار من الصحف اليومية , ويقطفون النكت من المجلات الخفيفة , وواحد في الألف هو الذي يقرأ الكتاب المثقف ويطالع المجلة المهذبة . وهذا الواحد الأحد يدركه في أكثر العام فتور الطبع أو عدوى البيئة أو فوضى النظام , فيعاف الكتاب ,ويحتوي الصحيفة , ثم يقعد في مشارب القهوة يتقمع (معناها يطرد الذباب من فراغه) , أو يسير في مجالى الطبيعة يتأمل ,أو يضطجع في مراقد السكينة يستجم .ذلك تقدير مقارب نتهجم به على ( مصلحة الأحصاء) وفي أيدينا استقراء متتبع لايتهيأ لغير من قضى أكثر العمر في التعليم والـتأليف والصحافة.
وتقدير المؤلفين والكتاب في هذا الباب هو الكاشف الحق عن مكان الأمة من التربية القويمة والثقافة الأصيلة والرقى الصحيح . أما قياس درجة الرقي على نسبة القارئين بالقوة لا بالفعل , فذلك عمل كل مايدل عليه أنه خانة في سجل التعداد .ماذا يعود على العقلية المصرية اذا بلغ (فكـاكو الخط) فينا مائة في المائة .مادام فك الخط لايطلق عقلا أسيرا ولايجلو بصرا حسيرا ولايذكى قريحة كابية؟ أوافق مصلحة الإحصاء على أن في الخمسة عشر مليون نفس أكثر من مليوني قارىء , وأن في هذين المليونين ألوفا من ذوي الشهادات المدرسية والدرجات الجامعية يستطيعون أن يكشفوا للعقل آفاق المعرفة , وينهجوا للنفس طرائق الكمال; ولكنك اذا وازنت بين عدد المتعلمين وعدد مايطبع من الكتاب ومايوزع من الصحيفه خامرك الشك في إ حصاء المصلحة , أو في تعليم المدرسة , أو في عقلك انت! ينشر في العام كله بضعة من الكتب يتراوح مايطبع من كل واحدة منها بين الألف والثلاثة الالاف , ثم تساق الى قراءته بالطبل والزمر مصر جمعا , وفي معوتنها العالم العربي أجمع . ومع ذلك لاتنفد طبعته المباركة بعد الأغراء والأهداء قبل خمس سنين ! .
أليس معنى ذلك أن هذا الشعب أمي وإن عرف حروف الهجاء , وعامي وإن تلقب بألقاب العلماء؟نتبع الطالب من يوم دخوله روضة الأطفال الى يوم خروجه من الجامعة , فهل تراه يقرأ - وإن قرأ- إلا كتب المدرسة أو ملخصات العلم أو فكاهات الصحف ؟ إنك تراه ساعة الدرس وأذنه الى فم الأستاذ ,ويده على القلم , وعينه في الكراسة , يختصر ما اختصر , ويقتصر على ما اقتصر . ثم تراه ساعة الفراغ يحاول أن ينقشه بالتكرار على صفحة ذهنه , فيصدع رأسة بترديد ما لايفهمه , ويغنى نفسه بإساغة ما لايهضمه . حتى اذا خرج من المدرسة خرج مكروبا لايتقار من الكلال والسأم , فينفس عن نفسه بالفكاهة الرخيصة أو القراءة السهلة ! فإذا نال الشهادة بالحفظ تبعه هذا النفور إلى ديوانه إذا كان عبد الوظيفة , أو الى مكتبه اذا كان حر العمل , فيكره الأدب لأنه يتذكر دروس المحفوظات , ويعاف القراءة لأنه لم ينس درس المطالعة , وعملة وأملة لايقتضيانه التعمق ولا المزيد , فيعود كما بدأه الله أميا يعمل بالأرشاد , وفطريا يهتدي بالغريزة . والمعلم الذي يخرج التلميذ اليوم كان هذا التلميذ نفسه بالأمس . أرسل الى مدرس الجغرافيا في كلية الآداب يسألني فيه أن أقطع عنه (الرسالة) لانه لايجد وقتا لقرائتها , وهو لايلقاك إلا حدثك بما قالته المجله الفلانية عن الفتاة , فلانة وماتهزأت به المجلة الأخرى من الأستاذ فلان . ثم سأله أحد طلابه يوما عن مدينة (واسط) فقال له: أحسبها مكانا في طريق (القيصر) ! قرأت هذا الكتاب فعذرت وكيل المعرض الزراعي الصناعي وقد دخل عليه مندوب (الرسالة) يطلب منه تصريحا صحفيا بدخول المعرض , فقال له: وأمرات التعجب الساخر تتخايل على جبينه العريض :, ولكنني لم أر هذة الرساله قط ! فلم يجبه مندوبنا وأنما أجابه حاجبه بقوله: لأ , يابيك ! هذة مجلة صفتها كيت وكيت , وأنا وابنتي نقرأها كل أسبوع , ونجلدها كل سنة ! سمعت هذا الخبر فعذرت ذلك الباشا القاروي الذي أهديت اليه "الرسالة" لصلة بين أسرتي وبينه فردها علي وقد كتب على غلافها الأبيض بالقلم الغليظ (مرفود)!!! فوقع في نفسي أن الباشا يتشبه بالملوك والخلفاء , في رفد المعوزين من الأدباء والشعراء , فهممت أن أكتب اليه أشكره وأستعفيه لو لا أن نبهني صديق ممن أوتى منطق الناس أن (مرفود) معناها (مرفوض). ولا أريد الترسل في هذا الحديث , ففي ذاكرة كل صحافي من بابه طرائف وأعاجيب!
الحق أننا أمة أمية تنظر الى الكتاب نظر المتعظم الخائف , أو المتصنع العازف . ومادمنا لانرى الكتاب ضرورة للروح ,كما نرى الرغيف ضرورة للبدن, فنحن مع الخليقة الدنيا على هامش العيش أو على سطح الوجود.
تتطور المذاهب والآراء , كما تتطور الحلى والأزياء فاذا لم تتقص بالقراءة المتجددة أخبار هذا التطور من أطراف الأرض عشت في عصرك غريب العقل أجنبي الشعور وحشي الثقافة , كالذي يلبس في الناس زيا.
إن من وظائف المدرسة أن تعودك القراءة وتعلمك كيف تقرأ. وإن من وظائفك أن تقرأ وتعرف ماذا تقرأ . فإذا لم تفعل هي فقد قصرت عن رسالة , وإن لم تفعل أنت فقد فرطت في واجب .
ليت الذين يطلبون من الأدباء أن ينتجوا ويجيدوا الإنتاج , يطلبون من القراء أن يقرأوا ويحسنوا القراءة . فلوكنا نقرأ لخلقنا الكاتب والكتاب, ولو كنا نقرأ لأخصبنا حقول المعرفة فازدهرت في كل مكان وأثثمرت في كل نفس . ولو كنا نقرأ لما كان بيننا هذا التفاوت الغريب الذي تتذبذب فيه الافكار بين عقلية بدائية وعقلية نهائية . ولو كان العالم العربي يقرأ لنشر من الكتاب زهاء مائة الألف , ووزع من الصحيفة قرابة المليون . وإذن تستطيع أنت أن تتصور كيف تزدهر الثقافة وتنتشر الصحافة ويتنوع الأدب ويرقى الأديب !
